ما نقله الحافظ ابن كثير من الإجماع على حقيقة الإيمان
وممن نقل الإجماع أيضاً الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فإنه قال في أول تفسير سورة البقرة في تفسير قول الله تعالى: (( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[البقرة:3]: (فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص). فالإمام الحافظ ابن كثير وهو شافعي المذهب ومطلع على أقوال المذهب، يقول: إن الإيمان إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، وزاد أنه اعتقاد، ثم قال: (وهكذا ذهب إليه أكثر الأئمة) ثم استدرك فقال: (بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل ، وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً). وقد علق على كلامه بعض المحققين فقالوا: (لعله يعني بالإجماع إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أنه الاعتقاد فقط) وهذه مشكلة كثير من كتب العلم والسنة، أن يعلق عليها من يشوهها، كما في بعض التعليقات على شرح العقيدة الطحاوية ، فكتاب جليل كـتفسير ابن كثير لا ينبغي أن يعلق عليه من لا يدرك حقيقة مذهب السلف، فلما قال الحافظ ابن كثير: (إجماعاً) قالوا: (لعله -أي: هذا الإجماع- إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أن الإيمان هو الاعتقاد فقط). ويرد عليهم بأن الإجماع الذي يعتد به ويذكر هو إجماع العلماء من أهل السنة ، أما أهل البدع فلا يعتد بخلافهم، فلا يقال: اختلف العلماء في المولد، فمنهم من قال: إن عمل المولد سنة، ومنهم من قال: إنه بدعة، فهذا كلام لا يصح؛ لأنه بدعة لا يعتد بها، ولو اعتد بها لأصبحت كل قضايا ديننا خلافية، وهذا ما يخطئ فيه كثير من الناس، يقولون: ما دام الأمر خلافياً فكن مع أحد الأقوال أو رجحه، ولا تنكر على الآخرين، فأنت تأخذ بكلام الإمام أحمد وغيرك يأخذ بكلام المعتزلة ، ولا بأس بذلك، فكلها أقوال مأثورة منقولة! ونقول: هذا هدم للصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه فقال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ))[الأنعام:153]، فقائل هذا القول هو كمن يقول: اتبع أي سبيل شئت. وهذا لا يجوز أبداً، فنحن إنما ندعو الله ونقول: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))[الفاتحة:6] وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمر الدين، أما ما اختلف فيه من الفروع في الأحكام العملية، فهذا الذي يسع الإنسان أن يأخذ فيه أحد الرأيين على أن يتحرى في أن يأخذ ما يراه أقرب إلى الدليل. فلا يعتد بكلام أهل البدع على الإطلاق، وكيف يعتد بكلامهم والأئمة الأربعة الذين أجمعوا على حقيقة الإيمان قد ثبت عنهم ذم أهل الكلام، وحكم بعضهم فيهم بأن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في الأسواق؟! فمن كان هذا حاله هل يقال عنه: خالف فلان؟! فهذا مثل شارب الخمر، لا يعتد بخلافه في تحريم الخمر؛ لأنه يشربها، فلا نقول: إن المسلمين يحرمون الخمر إلا أن بعضهم يشربها، فهي خلافية، وهذا في الأمور العملية، وكذلك في الأمور الاعتقادية، بل هي أهم وأعظم، فلا يعتد بخلاف من خالف الحق وخالف السنة. فما أكثر من شوهوا كتب السلف العظيمة! وإن كان بعضهم قد خدم كتب السنة خدمة عظيمة، لكنه حاد عن الحق لجهله بعقيدة السلف، أو خطئه في بعض المسائل.